يقول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [ومما يدل عَلَى أن الشهادة تكون بالفعل] قوله تعالى: ((مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ))[التوبة:17] فهذه شهادتهم عَلَى أنفسهم بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله - في بعض طبعات الكتاب نقص، والزيادة هي قوله: [بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله]- فهي شهادة بكفرهم، وهم شاهدون عَلَى أنفسهم بما شهدت عليهم].
فلو أن إنساناً يأكل الحرام -أجارنا الله وإياكم- وفي يوم من الأيام وقف وتكلم عن تحريم أكل الحرام فإنك ستقول: شهد عَلَى نفسه، وإن لم يقل أشهد عَلَى نفسي.
ومثله ما قاله الله تَعَالَى عن الْمُشْرِكِينَ: (((مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ))فإن هذا الفعل منهم شهادة بكفرهم ودلالة عَلَى أنهم لم يوحدوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
[وأما مرتبة الأمر بذلك والإلزام به وإن كَانَ مجرد الشهادة لا يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه فإنه -سبحانه- شهد به شهادة من حكم به، وقضى وأمر وألزم عباده به، كما قال تعالى: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ))[الإسراء:23] وقال تعالى: ((وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ))[النحل:51] وقال تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً))[التوبة:31] وقال تعالى: ((وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ))[الإسراء:39] وقال تعالى: ((وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ))[القصص:88] والقرآن كله شاهد بذلك.
ووجه استلزام شهادته -سبحانه- لذلك: أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو، فقد أخبر وبيَّن وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه باطلة، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلهاً والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهاً، وهذا يفهمه المخاطَب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلاً يستفتي رجلاً أو يستشهده أو يستطبّه وهو ليس أهلاً لذلك، ويدع من هو أهلاً له فتقول: هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب، المفتي فلان، والشاهد فلان والطبيب فلان، فإن هذا أمر منه ونهي.
وأيضاً: فالآية دلت عَلَى أنه وحده المستحق للعبادة، فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة، تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تَعَالَى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم.
وأيضاً: فلفظ "الحكم" و"القضاء" يستعمل في الجمل الخبرية، ويقال للجمل الخبرية: قضية، وحكم، وقد حكم فيها بكذا، قال تعالى: ((أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))[الصافات:151-154] فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكماً وقال تعالى: ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))[القلم:35، 36] لكن هذا حكم لا إلزام معه.
والحكم والقضاء بأنه لا إله إلا هو متضمن للإلزام. ولو كَانَ المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها، ولم ينتفعوا بها ولم تقم عليهم بها الحجة، بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها، لم ينتفع بها أحد ولم تقم بها حجة، وإذا كَانَ لا ينتفع بها إلا ببيانها، فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة: السمع والبصر والعقل] اهـ.

الشرح:
ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ المرتبة الأخيرة من مراتب الشهادة وهي أهم المراتب: مرتبة الأمر والإلزام به.
وقلنا: وإن كَانَ مجرد الشهادة لا يستلزمه؛ لأنه إذا شهد إنسان بشيء فشهادته في الأصل لا تستلزم أمراً ولا نهياً ولذا يقول المصنف: لكن الشهادة في موضع التوحيد لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تستلزم وتتضمن ذلك، -أي: المرتبة الرابعة والأخيرة- فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شهد شهادة من حكم وأمر وقضى به، ولذلك جاءت الآيات في القُرْآن دالة عَلَى الأمر والقضاء بتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو ما يقتضي أن شهادة الله عندما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:((َشهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))[آل عمران:18] تتضمن أمر الله بأنه لا يكون هناك إله إلا هو، وقال تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ))[البينة:5]، ((وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ))[الإسراء:39] ((َلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَر))[القصص:88] إِلَى غير ذلك.
فالمرتبة الرابعة من مراتب الشهادة: هي أمر الله وقضاؤه وحكمه بأن يفرد ويوحد بالعبادة -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دون من سواه، كما دلت الآيات الأخرى التي ورد فيها القضاء والأمر، وورد فيها النهي.
فمجرد الشهادة في ذاتها لا تتضمن الأمر؛ لكن هذه الشهادة - خاصة- أنه "لا إله إلا الله" تستلزم الأمر، ووجه استلزامها ذلك أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شهد أنه يعلم أنهم ما يدعون من دونه من شيء، فهو يعلم أنه هو الله الإله الواحد ثُمَّ أخبر به كما في الآية، ويتضمن ذلك أن إلهية ما سوى الله باطلة إذ كَانَ هو الإله المعبود بحق.
ويضرب المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ لذلك مثالاً فَيَقُولُ: لو جئت إِلَى إنسان قد ذهب إِلَى طبيب ما، فقلت له: ليس هذا بطبيب، الطبيب فلان، فأنت الآن لم تأمر باللفظ ولم تنه ولكن دلالة ذلك أنك تقول: دع هذا الإِنسَان واذهب إِلَى الطبيب الذي هو فلان.
فعندما تقول: لا إله إلا الله فهذا نفي وإثبات، وهو متضمن للأمر والنهي أي: لا تعبدوا هذه الآلهة واعبدوا الله، فمعنى أنه إله ورب إلزام العباد أن يعبدوه وحده وأن العبادة خالص حقه -كما في الحديث المشهور- قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {حق الله عَلَى العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً}.